Contents
تتصدر القضايا المتعلّقة بالهجرة الغير النظاميّة وسياسات الحدود حيّزا هامّا من النقاش في الأوساط المؤسساتيّة الأوروبية بين مؤيّد للإجراءات والبرامج المتّبعة في إطار النهج “الحمائيّ” الذي أضحى متناميا بين عدد لا بأس به من دول الإتحاد خصوصا مع صعود التيارات الشعبويّة وأحزاب اليمين وبين آراء أخرى تسعى إلى مراجعة هذه السياسات و التعمّق في حدود برامج الإتحاد الأوروبي حول الهجرة بمناقشة أسباب القصور التطبيقي الذي تحمله بعض المشاريع المتّبعة في هذا الصدد. هذا الخلاف الداخلي، الذي تواترت التعقيدات التقنيّة والتحولات الإستراتيجية الدائمة لدفعه إلى الإستمرار كان محور ورقة سياسات للباحثتين الإيطاليّتين “كيارا لوشي” و”أليساندرا روسو” ضمن منصّة “جيوبوليتيس” في جانفي 2020 بعنوان “Whose Enemy at the Gates? Border Management in the Context of EU Crisis Response in Libya and Ukraine”.
أهمية هذه الورقة،التي سنخوض في تفاصيلها من خلال هذا المقال، أنها بادرت بطرح القضية من الداخل عبر رصد وفهم الخلل الذي يعتري المنهج البيروقراطي للإتحاد الأوروبي في التعامل مع أدفاق الهجرة غير النظاميّة القادمة من بلدين يحتويان على خصوصية ثقافية وحضاريّة متمايزة ،”أوكرانيا” و”ليبيا”، إذ بالرغم مما يحمله المثالين من اختلافات جوهريّة، إلا أنهما يتطابقان في عدد من النقائص الهيكليّة المشتركة التي تترجم ما للسياسة الأوروبية المتّبعة من أوجه الفشل.
للإطلاع على المقال في صيغته الأصلية:
هل الإتحاد الأوروبي رهين لحدوده؟
تبدأ الورقة بمناقشة مفهوم”الحدود” في فكر المخططين الإستراتيجيّين للإتحاد الأوروبي.انطلاقا من فكرة كسر الحواجز السياسية والإقتصاديّة التي انبنى عليها الإتحاد منذ بداياته. فتاريخ الإتحاد الأوروبي يتشابك بشكل وثيق مع رسم الحدود وإزالتها كعمليات “سياسيّة وإجتماعيّة ومكانيّة” بغاية خلق التكامل الأوروبي الشامل. إلا أن هذا السعي المحموم نحو الإندماج الداخليّ، لم يمتدّ إلى الجوار، بل أخذ أشكالا قاسية من النبذ لمن هو خارج الفضاء الغربيّ عموما. تعزز هذا الطرح خاصّة مع أوائل الألفية حيث تمّ تبني نهج صارم من الرؤية البراغماتية القصويية التي تعتمد على فهم جامد لنظرية السيادة، وكان لسياسات وممارسات إدارة الحدود في الإتحاد اليد الطولى في ترسيخها.
تقدم الباحثتين تفسيرا لهذا التوجه بالإستناد إلى تزايد الإنقسام المؤسساتي والسياسي صلب الإتحاد الأوروبي وتنامي المنهج السياسي الواقعي الذي يدفع إلى التضارب في الإستراتيجيات بين الدول الأعضاء.لذا كانت تدخّلات الإتحاد الأوروبي في الفترة بين 2013-2017 مثلا مرآة عاكسة لمخاوف الإتحاد الأوروبي بشأن تحقيق الإستقرار في دول الجوار.وتعتبر “الإستراتيجية العالمية الأوروبية للسياسة الخارجيّة والأمنية ” لسنة 2016 خير مثال على ذلك، إذ قررت ضمن مخططها إحداث خليّة تنسيق مكرّسة لمنع النزاعات وسياسة القانون وإصلاح قطاع الأمن وضمان الإستقرار. ثم تعزّزت هذه المقاربة بالترفيع في مخطّطات التعاون الخارجي للإتحاد الأوروبي مع دول الجوار في تدريب وتوجيه القوات المسؤولة عن مراقبة الحدود.
بدأ هذا النهج عموما من خلال سياسات الإتحاد الأوروبي للجوار مع بلدان غرب البلقان، بغاية إرساء سياسة متكتملة لبناء الإستقرار وإدارة الحدود، لكن أبرز العيوب التي طالت هذه السياسات توجهها المكثّف نحو فكرة إصلاح المؤسسات والهياكل و إهمالها لعنصر التدريب، أي التعاطي مع المسألة عبر الطرق البيروقراطية وعدم استشارة الأطراف المحليّة بالشكل الكافي. وقد دفع هذا الأمر إلى إعادة النظر في سياسات الجوار الأوروبية مع بعض دول شرق أوروبا غير المنضوية في الإتحاد عبر توفير المعدات الأمنية والتدريب ومبادرات بناء القدرات إضافة إلى التحرير التدريجي للتأشيرات الهادفة إلى تسهيل الهجرة النظاميّة، كنوع من الحوافز مقابل تبنّي قواعد وممارسات الإتحاد الأوروبي في القطاع الأمني و تنظيم الهجرة وإصدار جوازات السفر.غير أنّ هذا النهج “الناعم” في التعامل مع الجوار الشرقي للإتحاد قابلته مقاربة أمنيّة تجاه الجوار الجنوبي بتعزيز الممارسات الإقصائيّة كما سنرى لاحقا.
سياسات أوروبية تنشد “الإستقرار الزائف”
دفعت المشاكل الناجمة عن الهجرة غير النظاميّة في اتجاه الإتحاد الأوروبي سواء من الشرق أو الجنوب إلى إعادة النظر في سياسة الجوار الأوروبية بشكل مفصل. ضمن هذا السياق تحديدا دخلت أوكرانيا في مفاوضات جديدة حول سياسات جديدة لاتفاقات الشراكة (مارس 2007) وإتفاقية جديدة معمّقة وشاملة ضمن منطقة التجارة الحرّة (فيفري 2008)، لكن تمّ تعليق العمل بهذا المسار حينما اندلعت موجة من المظاهرات في العاصمة “كييف” أعقبها تدخّل أمني لتفريق المتظاهرين.لكن وبالتوازي مع هذه الأزمة السياسيّة ظهرت مشكلة أمنيّة كبرى في البلاد في مارس 2014، مع قرار بعض المقاطعات الشرقية والجنوبيّة الانفصال عن كيان الدولة الأوكرانية وضم روسيا لجمهوريّة القرم ذاتيّة الحكم وإعلان جمهوريّتين مدعومتين روسيّا في “دوناتسك” و”لوهانسك” .مما دعى السلطة الأوكرانيّة إلى الاستنجاد بكافة القوى الأمنيّة والعسكرية إضافة إلى فصائل مسلّحة أخرى في حرب هجينة استمرّت لأمد طويل في منطقة “دونباس”.
و بالنسبة إلى ليبيا، فقد قاوم نظام القذافي بشكل كبير كافة مقترحات الشراكة الأوروبيّة المبنيّة على سياسة الجوار، غير أنّه مع ذلك شارك بصفة مراقب في عدد من مبادرات الإتحاد الأوروبي متعدّدة الأطراف بتوقيعه على برامج ثنائيّة مع إيطاليا لمكافحة الهجرة غير النظاميّة.أمّا بعد الثورة الليبيّة في سنة 2011، فقد واجه الإتحاد الأوروبي مشكلا آخر يتمثّل في الجهة السياسيّة التي سيتعامل معها، قبل أن يستقرّ الرأي على دعم حكومة الوفاق في الغرب الليبي التي تمّ الاعتراف بها دوليّا.
دفعت كلا الأزمتين في أوكرانيا وليبيا إلى مراجعة عميقة لاستراتيجيّات الإتحاد الأوروبيّ، تبعها صياغة إطار سياسي لإدارة الأزمات في سنة 2014.وقد مهّد هذا الإطار الطريق أمام المزيد من تدخّل الإتحاد في مسألة إدارة الحدود كرافد رئيسيّ لإصلاح قطاع الأمن في البلدين. بالنسبة للمثال الأوكرانيّ أعاد هذا الإطار السياسيّ النظر في مشاركة الإتحاد الأوروبيّ في مجالات دعم الإستقرار والحوكمة وإدارة الحدود، بما في ذلك “البعثة الاوروبية للمساعدة الحدوديّة في مولدوفيا وأوكرانيا” التي تعمل منذ سنة 2005 في مقرّ رئيسيّ بمدينة أوديسا وستّ مكاتب ميدانيّة على جانبي الحدود، مما منحها تغطية إقليميّة واسعة. وقد عزّز الإتحاد الأوروبيّ عبر هذا المشروع تنظيم تعامل القطاع الأمني مع المدنيّين وقدّم دعما ماليّا وتقنيّا لتعزيز سلطة القانون والمؤسّسات، كما خصّص مبلغ13.1 مليون يورو لتنفيذ المشروع في سنته الأولى (2014) ارتفعت فيما بعد إلى 32 مليون يورو للفترة الفاصلة بين ديسمبر 2017 وماي 2019.
أما في ليبيا فقد اتجهت اولويّة الإتحاد الأوروبي إلى تركيز مؤسسات الدولة، وقد ساهم الإتحاد عن طريق”بعثة الإتحاد الأوروبي للمساعدة المتكاملة لإدارة الحدود (EUBAM) التي تمّ تركيزها في ماي 2013 للعمل على مدى سنتين في “دعم السلطات الليبية لتطوير القدرات وتعزيز أمن حدود ليبيا الجويّة والبرية والبحريّة على المدى القصير وتطوير استراتيجيّة أوسع لشراكة في سياسة للجوار على المدى الطويل”.
عمليّا شجّعت البعثة السلطات الليبيّة على إحداث هيئة مشتركة بين الوزارات للتنسيق حول إدارة الحدود، غير أن هذه البعثة ما لبثت أن غادرت إلى تونس سنة 2014 ثمّ تمّ تعليق أعمالها بين فيفري 2015 وأوائل 2016.وقد أدرك الموظفون الأوروبيّن أن مشروعهم هذا لم يتوافق مع ما للأزمة الليبية من تعقيدات وديناميكيّات خصوصا عبر الحدود.لذا تحوّل الموقف الأوروبي إلى احتواء تبعات الأزمة عن طريق تعزيز التواجد البحري في الضفة الجنوبيّة للمتوسط، وفي هذا الإطار تمّ إطلاق عمليّة “صوفيا” البحريّة في سنة 2015 بغاية تفكيك شبكات الإتجار بالبشر وجمع المعلومات الإستخباريّة المتعلّقة بذلك (تلتها عمليّة إيريني في سنة 2020).
سياسات محكومة بالفشل
الملاحظ هنا في كلا المثالين الليبي والأوكرانيّ أن سياسات الإتحاد الأوروبي لمكافحة الهجرة غير القانونيّة لم تؤدّي إلى تحقيق الأهداف التي طمع مخططوها لإنجازها ويعود ذلك بحسب الدراسة إلى عاملين رئيسيّيين: أحدهما يتعلّق بالتناقضات الداخليّة والتفكّك الذي آلت إليه مؤسّسات الإتحاد الأوروبي، الذي أثّر على سرعة استجابته للأزمات. أما الثاني فيتعلّق باختلاف وجهات النظر لبلدان الإتحاد، التي تتبنى سياسات متضاربة على العموم. تعيب “لوشي” و”روسو” اعتماد الإتحاد الأوروبي على المنطق البيروقراطيّ عوض الرؤية الإستراتيجيّة.وهذا ما تأكّد في البعثة الأوروبية الأمنية لأوكرانيا، حيث حرص عدد من دول الإتحاد على تمركز نطاق البعثة في العاصمة “كييف” دون التوسّع إلى مناطق الصراع،وهو ما يتناقض مع توصيات الإتحاد الأوروبيّ، بل وحتى مطالب السلطات الأوكرانيّة نفسها.
كما تداخل عمل البعثة الأمنيّة الجديدة مع صلاحيّات “البعثة الاوروبية للمساعدة الحدوديّة في مولدوفيا وأوكرانيا” الأقدم زمنيّا والمعتادة عموما على طرق التعامل بواقع خبرتها مع السلطة الأوكرانيّة.وفي الحالة الليبية عكس تنوّع الهاجس الإستراتيجيّ الذي حكم الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبيّ الرؤى المتباينة لعمليّات تدحّل الإتحاد الأوروبيّ.
حسب أهداف العمليّة تبدو أربعة تهديدات رئيسيّة لأمن الاتحاد الأوروبي إذا ما تواصلت حالة الإستقرار في ليبيا، لكنّ اللافت هنا أنّ كلّ تهديد موجّه بشكل خاصّ لطرف معيّن في الإتحاد. فزيادة تدفّقات الهجرة تؤثّر بشكل رئيسيّ على إيطاليا ومالطا. أما تسلّل المقاتلين الأجانب وتهريب الأسلحة فهو هاجس أمنيّ لفرنسا خصوصا ثمّ ألمانيا. في حين يهدّد الإضطراب في مجال المحروقات المصالح الإسبانيّة والإيطاليّة. إضافة إلى ذلك، ساهم نقل جميع بعثات الإتحاد الأوروبيّ العاملة في ليبيا إلى تونس في مزيد من التشويش لعمل بعثة الإتحاد الأوروبي للمساعدة الحدوديّة، التي اضطرّت إلى التواصل عن بعد مع مسؤولي حكومة الوفاق الليبيّة.
وبرغم كافّة المجهودات التي بُذلت من قبل البعثة، بدا مسؤولو البعثة غير محيطين بشكل كاف باقتصاد الحدود الليبي في المنطقة الجنوبيّة القائم بشكل كبير على التهريب و الإتجار بالبشر وتزايد دور الفصائل المسلّحة في هذه العمليّات.وكان تركيز تعاون الإتحاد الأوروبيّ على إعطاء الأولويّة لإدارة الهجرة لمشاريع تتعلّق بالجوانب التقنيّة والتنمية وبرامج تطوير للقدرات لخفر السواحل الليبي بمساهمة أجهزة حماية الحدود البحريّة الإيطاليّة من خلال مشروع”دعم الإدارة المتكاملة للحدود والهجرة التابع ل “الصندوق الإئتماني الأوروبيّ لإفريقيا” المموّل بمبلغ 91.3 مليون يورو، وقد تمّ الموافقة على هذا البرنامج من قبل منظمة البحرية الدولية في سنة 2018.وكنتيجة لذلك تأسّس مركز وطنيّ ليبي للتنسيق حول الإنقاذ البحري وذلك بمساهمة فعّالة من حرس الحدود الإيطاليّ.
غير أنّ عديد المنظّمات الحقوقيّة وعلى رأسها “هيومان رايتس واتش” قد رأت في هذه الخطوة تجسيدا للسياسة الإيطاليّة المتشددة في مجال الهجرة، التي تدفع بمزيد من الوفيات للمهاجرين غيرالنظاميّين بمنع عمليّات الإنقاذ من طرف الجهات غير الحكوميّة. كما عبّر العديد من المهاجرين الآوين في مراكز الإحتجاز عن إسائة معاملتهم من قبل الحرّاس والمهرّبين وبأنّ قوات حرس السواحل تعاملت معهم بعدوانيّة. لذلك يرى الكثيرون أنّ على الإتحاد الأوروبي إدانة هذه المقاربة بدلا من دعمها لتعارضها مع الإلتزامات المقرّرة في القانون الدوليّ.
أيّ أثر لسياسات الجوار الأوروبيّة على أرض الواقع؟
تذهب الدراسة إلى أنّ النهج العام للإتحاد الأوروبي في سياسة الجوار مع ليبيا وأوكرانيا يعكس تطوّر مفهوم الأمن الشامل للإتحاد الأوروبي من بنية “التحوّل” إلى بنية ” دعم الإستقرار”. ففي ليبيا تمّ نشر البعثة الأوروبية في سنة 2013 كجزء من المقاربة الأوروبية لإصلاح القطاع الأمني في البلاد، غير أنّ ضعف السلطة في ليبيا و العمل عن بعد للبعثة من تونس وتصاعد الضغوط من الدول الأعضاء للإتحاد لتبنّي مقاربة أكثر تشددا حيال الهجرة غير النظاميّة حكم على التجربة عموما بالفشل.
في حين أدّى التضارب في المهام بين البعثتين الأمنيّتين للإتحاد الأوروبي في أوكرانيا إضافة إلى التنافس الخطير بين مشروعين استراتيجيين للتكامل الإقليمي (الاتحاد الإقليمي الأوراسي المدعوم من روسيا والشراكة الشرقيّة التي دعمها الإتحاد الأوروبيّ) إلى خلافات بين أعضاء دول الإتحاد الأوروبيّ في ما يتعلّق بالتفويض وجداول عمل بعثات الإتحاد الأوروبيّ، مما أدّى كذلك إلى تراجع التوقّعات التي تمّ التعويل عليها من قبل السلطات المحلية على إصلاح القطاع الأمنيّ.و بذلك اختلفت جزئيّات التجربتين، لكن كانت نتيجتها واحدة،تتلخّص في تراجع المشروع الليبراليّ، الذي ادعى الإتحاد الأوروبيّ أنّه يحمله يوما ما.
المراجع
Chiara Loschi & Alessandra Russo (2020): Whose Enemy at the Gates? Border Management in the Context of EU Crisis Response in Libya and Ukraine, Geopolitics, DOI: 10.1080/14650045.2020.1716739