الدين العمومي : العملة الصعبة مهما كان الثّمن

خفّضت وكالة موديز Moody’s للتصنيف الائتماني مؤخرا تصنيف الإصدار الطويل الأجل للعملة الأجنبية والمحلية لتونس بدرجة من B2 إلى B3، وحافظت على توقعاتها السلبية.

على الرغم من أنه ليس التخفيض الأول الذي تشهده البلاد منذ 14 جانفي 2011 (كانت تونس تحتل مؤشّر Baa2 أي ثمانية درجات أعلى مما هو الحال الآن) ، إلا أن هذا التخفيض الأخير له رمزية خاصة.

 في الواقع ، تقبع تونس قاب قوسين أو أدنى من الفئة C المرادفة لمخاطر عالية جدًا ، وهي فئة تشير و ترفع من احتمال التخلّف عن سداد الديون الخارجية.

 بطبيعة الحال، النتيجة المباشرة لهذا التصنيف الجديد هو اهتراء ميزانية سنة 2021. ففي الحقيقة، كان من المقرر جمع حوالي خمس الموارد من الأسواق المالية العالمية. و لكن بهذا التصنيف B3 وبدون ضمان من طرف ثالث، لا يمكن الجزم بأن تونس ستتحصل على هذه الموارد، ناهيك عن زيادة نسب الفائدة بنسبة تصل إلى حوالي 10٪ على مدى خمس سنوات.

جاء في التقرير أن التوقعات السلبية المذكورة آنفا “تعتمد أيضا على التأخير الذي شهدته المفاوضات وعملية انجاز برنامج جديد يموّله صندوق النقد الدولي IMF”. 

و تضيف الوكالة  أنه “من شأن مثل هذه التأخيرات أن تزيد من عدم اليقين بشأن قدرة الحكومة على تأمين نيل رضا مصادر التمويل الخارجية الرسمية وضمان النفاذ إلى الأسواق المالية الدولية بشروط ميسورة من أجل تلبية متطلبات التمويل المرتفعة على مدى السنوات القليلة المقبلة.” 

ماهي بالضبط “متطلبات التمويل المرتفعة” هذه ؟ 

الأولى هي خدمة الدين : خلاص الفوائد على الديون و سداد أصل الدين إذا لزم الأمر. إن حجم الأموال الضرورية لسداد أصول الديون لسنة 2021 هو أحد أضخم الدّيون في تاريخ البلاد. و بالتالي فإن الحاجة الملحّة اليوم بالنسبة لوكالة موديز ، ليس الاقتراض من أجل تشجيع الطلب أو الاستثمار في البنية التحتية أو الصحة أو التعليم أو غيرها من المشاريع، و إنما ببساطة، الاقتراض من أجل إيجاد طريقة تضمن لدائني تونس خلاص مستحقاتهم من أصل الدين على الأقل و خلاص فوائدهم في أحسن الأحوال. 

إلى جانب ذلك، ذكرت موديز الدور الحاسم الذي لعبه صندوق النقد الدولي. ففي الواقع، إن الجانب الجذّاب الذي يملكه الصندوق مقارنة ببقية مصادر التمويل هو نسبة الفائدة المنخفضة لقروضه. و في المقابل، يبقى لصندوق النقد الدولي الحق في الامتناع عن صرف قسط أو عدة أقساط من القرض في حال عدم تنفيذ “الإصلاحات المتفق عليها”. هذه “الاصلاحات” لا تعدو كونها مجرّد سياسات تقشّف كما تبيّن أمثلة اليونان و الأرجنتين و المكسيك : تسريح الموظفين، تخفيض الأجور، تخفيض قيمة العملة المحلية. هذا دون احتساب الخوصصة و الانفتاح الأرعن للسوق على الخارج الخ. 

و يبقى المبدأ المعمول به هو تبجيل خلاص الدين الخارجي على بقية نفقات الدولة. 

و لذلك فإن وجود صندوق النقد الدولي أو برامجه في دولة ما، يعني أساسا أن تلك الدولة خانعة و لا تملك إلا أن تسدد دينها و هي بالتالي تمسي”لقمة سائغة” للمستثمرين و المانحين الرسميين. 

إحدى النقاط الإيجابية النادرة في تقرير وكالة Moody’s تتناول تموقع تونس الخارجي الذي “تعامل بطريقة أفضل مما كان متوقعا في مواجهة الجائحة العالمية”. و بالتالي فإن مخزون تونس الاحتياطي من العملة الأجنبية ارتفع إلى 8,7 مليار دولار أي ما يقابل 5,3 شهرا من الصادرات، مقابل 7 مليار دولار في ديسمبر 2019 (3,6 شهرا). 

هل تجوز الغبطة بمخزون أصبح جيّدا نسبيا في إحدى اللحظات ؟ 

قطعا لا، فإن المحدد في المعادلة ليس وفرة المخزون بل قدرته على التجدد. 

هذا الاحتياطي سوف يواجه تحدّيات فعليّة في الأسابيع و الأشهر القادمة، إذ أن المواعيد النهائية لسداد الديون سوف تدقّ أجراسها الواحدة تلو الأخرى. “بداية بسندي اليورو Eurobonds الاثنين البالغة قيمتهما ال500 مليون دولار بضمان من الUSAID بنسبة 100%. هذا إلى جانب القرض القطري ب250 مليون دولار في 2021.” 

إن تركيبة الدين العمومي التونسي الذي يقوَّمُ ثلثاه ⅔ بالعملة الصعبة، من شأنها أن تجعله هشّا في مهبّ متغيّرات ليست له عليها أي سيطرة. مثلا، التذبذب في سعر صرف العملة أو الأزمات المالية أو ارتفاع نسبة الفائدة في الأسواق النقدية. 

و بالتالي فإن أبسط الاهتزازات يمكن أن تعجّز البلاد عن الإيفاء بديونها. 

إن هذا السباق المحموم نحو تحصيل العملة الصعبة و الذي تحرّكه الرغبة في مواصلة خلاص الديون، دفعنا إلى اتخاذ خيارات عبثية لدفع التصدير. 

على سبيل المثال، تعجّب التونسيون من اعلان وزارة التجارة في فيفري 2021 عن دعم صادرات الحليب و معجون الطماطم المركز. و قد اعتبر ناشطون سياسيون و منظمات المجتمع المدني و نواب عديدون من مختلف الأحزاب السياسية أن هذا القرار هو تلاعب يقوم به رجلا أعمال مؤثران اقتصاديا و سياسيا. 

الأول هو حمدي المدّب الذي يدير مجمع صناعة الألبان “دليس” و يترأس فريق الترجي الرياضي التونسي. يتلوه سمير الماجول، رئيس منظمة الأعراف و رئيس شركة مصبّرات ماجول. 

إذا شئنا اتّباع منطق اقتصاد السوق القائم على ثنائية العرض و الطلب و الذي تنخرط فيه البلاد، و بوجود طلب ثابت  يقابله زيادة في العرض ، من المفترض أن تنخفض الأسعار. 

بعبارات أخرى، إذا كان لمنتجي الحليب و معجون الطماطم فوائض، عليهم التخفيض في أسعار منتجاتهم لفائدة المستهلك المحلي. 

و لكن بدلا من تخفيض السعر، قامت الدولة بدعم الصادرات من هذين المنتوجين. 

حتى و إن غضضنا التفكير عن أن الدّعم ليس من اقتصاد السوق في شيء، و اذا لم يكن لنا بدّ من دعم الفلاحة، ألم يكن الأحرى و الأنجع أن ندعم الفلاحين الذين يتظاهرون في جميع أنحاء البلاد من أجل اهتراء قدرتهم على شراء الأسمدة و الذين يسكبون منتوجهم من الحليب على قارعة الطريق لعدم قدرتهم على تخزينه ؟ من له الأولوية ؟ 

إنّ هذه المحاباة التي حظي بها كبار صناعيّي الأغذية ليست المحرّك الوحيد لهكذا قرار. في الواقع، من الممكن أيضا قراءة القرار على ضوء “السباق المحموم نحو العملة الصعبة” الذي تخوضه الحكومة التونسية. و بالتالي، فإنّ حجم الدعم الذي تلقّته هذه الشركات التونسية ليس مهمّا طالما أنه مقوّم بالدينار التونسي و أن العملة الصعبة سوف تدخل إلى الخزينة. حتى و إن نضبت السيولة من الدينار، يكفي أن تقوم الحكومة بتحوير النظام الأساسي  للبنك المركزي المصادق عليه سنة 2015 للسماح بتشغيل آلة طباعة النقود. 

و ما همّنا في المشروع طالما توفّرت العملة الصعبة ؟ 

الآلية الثانية التي تأتي بالعملة الصعبة تتمثل في تكثيف التشبيك مع المانحين المؤسساتيين من أجل توقيع مشاريع شراكات تنمية عديدة و متعددة. في الواقع هناك احتمالان : 

1) إما تمرير مشاريع قوانين إلى البرلمان ليصادق عليها دون الاكتراث بنجاعتها أو تقييم أثرها، فقط للحصول على قرض (مثلا : المصادقة على تشريع مطابق لقوانين الاتحاد الأوروبي و معايير الصحة و الصحة النباتية ، و القانون الأساسي المتعلّق بتنظيم محكمة المحاسبات) 

2) أو الاقتراض لتمويل مشاريع لا تتطلب بالضرورة رأس مال بالعملة الصعبة أو مشاريع ذات أثر جدّ محدود (مثلا محطّات تحلية مياه البحر). 

إقرأ أيضا : تحلية المياه / جربة: اُشرب ماء البحر؟

لم يعد مهمّا أن ننظر إلى المشروع أو فائدته. لم يعد مهما التمحيص عن مدى جودة تنفيذه. 

المهم في هذه الأحيان هو الحصول على القرض وفقًا لقضاة الشؤون المالية. ونتيجة لذلك ، فإن وتيرة التوقيع على اتفاقات المشاريع في اطّراد و يتبعها أيضا ازدياد في عدد المصادقات في البرلمان. نفس الأمر بالنسبة لعدد المشاريع المتروكة و المهملة التي ما فتئت تتراكم كما شجبت محكمة المحاسبات في تقريرها الثلاثين.

و كيف يعقل أن نتمكّن من من الإقتراض من أجل مشروع دون انجازه ؟ 

عادة ما تقوم المؤسسات المالية الرسمية أو متعددة الأطراف (مثلا : الوكالة الفرنسية للتنمية أو نظيرها الألماني KFW أو المؤسسات التابعة لمجموعة البنك الدولي أو البنك الافريقي للتنمية إلخ.) بصرف قسط أول من القروض حالما يتمّ توقيع العقد. 

و هذا هو المعطى الذي يحفّز سلطاتنا على تسريع عملية المصادقة على المشاريع و إصدارها و إدخالها حيز التنفيذ. 

و في المقابل يشتكي المانحون من التأخير في تنفيذها و من المبالغ التي يتمّ رصدها دون صرفها (البنك الأوروبي للإستثمار تحدّث عن مبلغ يقدر ب 5 مليار يورو مرصودة). 

محكمة المحاسبات أشارت إلى سوء التصرّف هذا و لكنه لم يأت كنتيجة ل”ضعف كفاءة” الإدارة. طالما أن الهدف من المشروع هو الحصول على العملة الصعبة، يصبح انجازه بأكمله أمرا ثانويا. 

هذا الاشكال هو معضلة هيكلية راسخة و ليس مجرّد أحداث معزولة. 

ما العمل ؟ هل نواصل تغذية هذه الحلقة المفرغة ؟ 

السلطة السياسية وقعت في “فخّ المديونية” و هي تحاول أن تقترض بفوائد باهضة أكثر فأكثر من أجل الإيفاء بديون سابقة و ثقيلة غير ذات جدوى ، تأثيرها الوحيد على الاقتصاد الوطني هو نضوب السيولة. 

و حين سيأتي اليوم الذي تنسحب فيه الجهات المانحة الخاصة ثمّ الرسمية خوفا من المخاطر المتزايدة، سيصبح صندوق النقد الدولي خيارنا الوحيد و الأخير و سنظطرّ إلى الاقتراض منه بشروط أكثر إجحافا مما عليه الحال الآن. 

إن التعفّن السياسي و الاقتصادي أصبح يقينا. 

هل ستمنحنا مؤسسات واشنطن الهندسة المؤسساتية و النموذج الاجتماعي و الضريبي و السياسي الذي نحلم به ؟ 

التمديد في فترة السقوط يجعل التعافي أكثر صعوبة. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *