بن قردان: التحديات في الذكرى الثالثة لأحداث مارس

تحيي مدينة “بن قردان ” الذكرى الثالثة للاعتداء الإرهابي الذي قام به أنصار “تنظيم الدولة الإسلامية” و محاولتهم السيطرة على المدينة يوم 7 مارس 2016. و بعيدا عن الصخب المعتاد للاحتفالات و التظاهرات المصاحبة لهذا الحدث تتكرر النداءات للمسؤولين كل سنة لإيلاء هذه المنطقة حظها من التنمية العادلة و من تدخّل الدولة في الشأن التنموي ، التي فضلا عن مكانتها الإستراتيجية التي لا يجهلها القاصي و الداني فهي تعد أكبر معتمديات مدنين من حيث المساحة إذ تشمل قرابة 48 بالمائة من مساحة الولاية كما يناهز عدد سكانها المائة ألف نسمة.

Contents

معظم سكان منطقة “بن قردان ” ينتمون إلى نفس النسيج القبلي و هي قبيلة ورغمة “الأمازيغية الأصل و تحديدا الفرع العشائري “التوازين” و هم المعروفون بشدة المراس و البأس إذ كانوا في طليعة المعارك التي كانت تخوضها القبيلة في العصور الحديثة سواء ضد قبيلة “النوايل ” الليبية المجاورة أو ضد الاستعمار الفرنسي.و يخلّد التوازين تراث الفروسية هذا من خلال عديد التظاهرات خصوصا مهرجان الفروسية ،حيث يستعرض الشعراء الشعبيون مآثر فرسان القبيلة و صفاتها ، خصوصا منها الشجاعة ،و هي صفة لا زال يتوارثها أهالي بن قردان أبا عن جد، آخره ما تجلى بثبات في تحدّي سكان المدينة لمقاتلي داعش لمدة تزيد عن الأسابيع. ينظم هذا المهرجان في بحيرة البيبان أحد شرايين الحياة المجهولة لهذه المنطقة التي طغى على الأذهان زخم نشاطها التجاري و أشيح النظر عن مميزاتها الأخرى الفلاحية و المنجمية.

التوازن بين الجانب الليبي والتونسي

ف”بن قردان” هي كنز اقتصادي حقيقي بتمام ما تعنيه الكلمة إذ، حسب كتاب “بن قردان: الهوية و التاريخ” لمحمد شندول (ص54)، حرص المستعمر الفرنسي الذي خطّط لبنائها سنة 1895 أن يجعل منها مركزا استراتيجيا متقدما غير بعيد عن سباخ “المقطع” و ” العذيبات” المتاخمة للحدود، ليوازن الثقل السكاني المقابل في منطقة زوارة الليبية و البلدات القريبة منها ك” أبو كماش” و “زلطن”  و تكون في الآن نفسه نواة استقرار لقبيلة التوازين التي اعتادت حياة الارتحال كما ذكر أندري مارتل في “التخوم التونسية الصحراوية-الطرابلسية” . فقد حرصت الإدارة الاستعمارية على خلق نموذج اقتصادي يغذّي مناشط الحياة في المنطقة من خلال نواة تجارية في قلب المدينة فحزام فلاحي أول يحيط بها متكون من الزراعات المعاشية و حزام ثان لغراسة الزياتين في حين يشغل النشاط الرعوي المناطق البعيدة عن المركز إضافة إلى النشاط البحري في بحيرة البيبان التي تبعد حوالي 5 كيلومترات فقط عن مركز المدينة. و لئن تغيّرت ملامح توزيع هذا النشاط الاقتصادي اليوم مع النمو المطرد في التجارة مع الجانب الليبي فإن غراسة الزياتين تشهد انتعاشا ملحوظا خلال العقود الثلاثة الأخيرة  و امتدت إلى مساحات كبيرة لتجعلها في خانة المنافس المستقبلي لمعتمدية جرجيس المجاورة في مجال إنتاج زيت الزيتون. عدا عن ذلك يوفّر ميناء “الكتف” على البحر المتوسط و غير البعيد عن الحدود الليبية إنتاجا كبيرا من الأسماك يجعل من بن قردان المركز الرئيسي الأول على مستوى الولاية في صيد الأخطبوط (بن قردان: الهوية و التاريخ، ص234) . كما يتم استخراج نوعيّة ممتازة من الملح من سبخة العذيبات التي تبعد قرابة العشرة كيلومترات عن المدينة.

لسائل أن يسأل هنا، ما الذي قد يجعل منطقة تحمل مثل هذا التنوّع من الخيارات و الإمكانيّات الاقتصاديّة أن تعاني من شعور متنام بالتهميش ، نراه يدفع بالمواطنين في الكثير من الأحيان إلى العديد من التحركات الاحتجاجية ، أبرزها ما حصل سنة 2010 أثناء إغلاق معبر رأس الجدير مع ليبيا ، و هو حدث عدّه الكثيرون علامة فارقة في مسار انهيار النظام الديكتاتوري؟

لم تعتمد الدولة التونسية -في فترة ما بعد الاستقلال خصوصا- ، أية رؤية تنموية واضحة تخص منطقة “بن قردان” ففي المراحل الأولى من حكم الرئيس الحبيب بورقيبة كانت بن قردان من المناطق المغضوب عليها سياسيا بسبب انتماء العديد من أبنائها للتوجه القومي العربي و مساندتهم للحركة اليوسفية و هو ما جعل حظها من التنمية الجهوية يكاد يكون منعدما حسب كمال العروسي في “التجارة الموازية و التهريب في الفضاء الحدودي التونسي-الليبي” المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، أوت 2018. ثم ارتأى النظام في مرحلة متقدمة أن يمتص الاحتقان الموجود بالاعتماد على توسيع التجارة مع الجانب الليبي ليستوعب اليد العاملة الشبابية خصوصا ، إلا أن هذا النمط من “القدرة الاستيعابية للدولة” كما يعبّر عنه بلغة العلوم السياسية كان يخفي العديد من المساوئ، شأن أي حل يعتمد على الزبونية الاجتماعية، إذ دفع العديد من سكان المنطقة إلى الربح السهل و السريع عبر وسائل لا تشجّع على الإنتاج ، فضلا عن عديد المخاطر الأخرى و من بينها تذبذب وتيرة هذه المبادلات و إغلاق المعابر الفينة بعد الفينة ممّا قد يؤدي إلى جملة من الاحتجاجات و إغلاق للطرقات كما حدث خلال الصائفة الماضية.

اِنتخابات بلدية محلية ديمقراطية… واستراتيجية؟

لا شك بأن عددا مهما من الرهانات الاقتصاديّة و التنموية يظل الحافز الأوّل في أول انتخابات بلدية في الزمن الديمقراطي بتونس إلا أنه في حالة بن قردان كان للتنافس في البلدية نكهته السياسية الواضحة كانعكاس طبيعي لمكانة المدينة استراتيجيا .فقد شهدت الحملة الانتخابية تنافسا محموما بين قائمة حركة النهضة ، التي تعتبر المدينة أحد معاقلها الرئيسية على المستوى الوطني وقائمة مستقلة ، هي قائمة “بن قردان أولا” بقيادة الأستاذ الجامعي “شكري الرجيلي” . تمثل هذه القائمة الأخيرة من الناحية الإيديولوجية جزءا كبيرا من العائلة القومية العميقة الجذور في هذه المنطقة ومما يسميه السكان هناك ب”الخضر” أي أتباع النظام الجماهيري السابق في ليبيا المجاورة كما يشاع مساندة بعض الرموز التجمعية لها. ورجّح  الباحث مهدي ثابت في حوار معه أن البعض من أنصار حركة النهضة يعتبرون هذه القائمة بأنها “مدعومة من قبل المحامي و وزير أملاك الدولة السابق مبروك كورشيد” في خطة لمنع حركة النهضة من السيطرة على البلديات الحدودية في الجنوب الشرقي.

و قد كان التنافس بين القائمتين مشحونا جدا و متشنجا وصل إلى حد الخصومات المعلنة إلى أن تم الإعلان عن النتائج النهائية حيث حصلت حركة ال نهضة على 15 مقعدا في المجلس البلدي في مقابل 9 مقاعد لقائمة “بن قردان أولا” المنافسة. بعد تشكيل المجلس البلدي بدأت عديد الخلافات تجد طريقها إلى الحل و بدأت حدة الاستقطاب الإيديولوجي في الخفوت ، غير أن وحدة الصف و صدق النوايا لا يكفي وحده لمجابهة الوضع الكارثي الذي تقبع فيه هذه المدينة منذ فترة طويلة.

طرق وماء، من التحديات اليومية للمواطنين

و تبقى مشكلة المياه الصالحة للشراب هي المشكلة الرئيسية التي تحدق بمدينة بن قردان منذ فترة طويلة نسبيا ، إذ شهدت عديد الأحياء انقطاعات متكررة للمياه منذ سنة 2015 إضافة إلى ضعف التزويد و انقطاع المياه ليلا في معظم مناطق المدينة و هو ما أدى إلى مجموعة من الاحتجاجات أهمها ما وقع في سنة 2017 خاصة إضافة إلى تردي نوعية المياه الموجودة التي طغت عليها نسبة عالية من الملوحة. و قد باشرت الشركة الوطنية لاستغلال و توزيع المياه عملية تطوير للشبكة بهدف تلافي هذا النقص بحفر بئر جديدة بمنطقة “الوراسنية” على بعد 6 كم شمال مدينة بنقردان و مد خط إمداد من جرجيس ، غير أن هذه الحلول و إن ساهمت بشكل جزئي في تحسين الإمدادات و التقليص من نسبة الملوحة إلا أنها لا تعد حلا جذريا بأي حال نظرا لاستمرار الانقطاعات خصوصا في الفترة الليلية و لجوء بعض السكان إلى اعتماد مضخات خاصة تقوّي نسبة الربط بالمياه لديهم مما يساهم بشكل طردي في تقليص حصة مساكن أخرى من الماء الصالح للشراب.

فعلى مستوى البنية التحتية تشهد المدينة أشغالا متواصلة لشبكات التطهير ضمن برنامج بدأ الشروع فيه منذ سنة 2016، غير أن هذا المشروع تشوبه عديد شبهات الفساد من جهة الجودة خصوصا ،إذ انهارت العديد من قنوات الصرف الصحي بعد مدة وجيزة من بداية الأشغال و بمجرد هطول أمطار غزيرة في ربيع سنة 2018  حسب ما لاحظناه، فكانت النتيجة ضررا فادحا طال البنية التحتية الموجودة في المدينة، والتي تعاني أصلا من حالة تردّ قصوى بسبب ما يعتري وسط المدينة من ضيق في الأنهج و نمط توزّع المدينة الشعاعي على الأطراف. إذ أصبحت الحواف الترابية و الحفر المشهد السائد في الطرقات الموجودة لفترة طويلة، هذا فضلا عن المطبات الكثيرة التي ساهمت في أعطاب متعددة للسيارات المتنقلة عبر هذه المنطقة الحيوية.

على مستوى آخر، تسعى البلدية إلى إحداث مشروع طموح في منطقة “شاطئ مرسى القصيبة” على ضفاف بحيرة البيبان لتعزيز الإمكانيات السياحية في بن قردان خصوصا و أن هذا الشاطئ كان محل استغلال من قبل المجلس الجهوي لولاية مدنين و لم يقع الحاقة بالبلدية إلا من فترة قريبة مما حال دون استغلاله بالشكل الكافي.

(صورة صدري خياري لبرّ الأمان www.sadrikhiari.com)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *