مجلس الأمن القومي، رهان السلطة بين القصبة وقرطاج؟

Contents

(يمكن الاطلاع على النسخة الفرنسية: news.barralaman.tn/fr/cns-kasbah-carthage)

 

من يمسك بزمام السلطة في تونس: القصبة أم قرطاج؟ بمرور الأيام يتراءى لنا نزاع ضمني على الصلاحيات بين رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، ورئيس الجمهوية، الباجي قائد السبسي. إن شعار الحرب على الفساد الذي أطلقه يوسف الشاهد سرعان ما ردده الباجي قائد السبسي. لذا يصبح السؤال هنا الملح “ماذا يعني الأمن الوطني؟” بعد نشر أمر حكومي في الرائد الرسمي بإحداث مجلس الأمن القومي خصوصا ليرأسه رئيس الجمهورية، وتدعيم المجلس بعشر لجان برئاسة وزراء مختلفين وفق ما جاء في القرار الرئاسي الذي نشر بتاريخ 21 نوفمبر بعد إمضائه في 30 اكتوبر 2017. وفيما يختلف عن أمن الدولة أو الأمن العام؟ فالصحة والبيئة والتربية والكثير من الصلاحيات الأخرى مضمنة في عمل المجلس رغم أنها، مبدئيا ، لا صلة لها مباشرة بالأمن الوطني. فما الغاية من هذا المجلس؟ وما هي الصلاحيات التي تتيح لرئيس الجمهورية أن يمارسها ضمنه؟

مجلس الأمن القومي أم حكومة موازية؟

يضم مجلس الأمن الوطني الجديد 14 لجنة، ممثلة فيها تقريبا كل الوزارات. ويلاحظ تواجد رئاسة الحكومة في لجنتين، حيث يرأس رئيس المركز الوطني للاستخبارات لجنة تتولى الملف ذاته، ويشارك الكاتب العام للحكومة في لجنة تأمين الحياة السياسية والحياة العامة”. ومن اللافت للنظر أن رئيس الحكومة لا يرأس شخصياً أياً من اللجان، في حين أن باقي اللجان يرأسها وزراؤه.

يرأس رئيس الجمهورية مجلس الأمن القومي بموجب دستور سنة 2014، إلا أنه اختار مجلساً ذا مجالات واسعة جداً مقارنة بالمجلس الذي كان قد أحدثه زين العابدين بن علي في سنة 1990، دون أن ننسى أن الرئيس المخلوع كان الشخصية المركزية في الجمهورية الأولى. كما أن الفصل 51 من دستور 1959 واضح ولا لبس فيه في هذا الصدد، حيث نصّ على أنّ:

“رئيس الجمهورية ينهي مهام الحكومة أو عضوا منها تلقائيا أو باقتراح من الوزير الأول.”

وهي صلاحية لا يملكها الباجي قائد السبسي. هل يسعى رئيس الجمهورية التونسية الحالي إلى تعويض ذلك من خلال مجلس الأمن الوطني؟ أم هل أنه ينوي الحكم على طريقته؟

تغيير المؤسسات من أجل التحكم فيها

إن فهم الجدوى من إنشاء لجان ذات مجالات واسعة يتطلب الرجوع إلى الآليات التي يملكها رئيس الجمهورية في إطار دستور 2014. فبإمكانه حلّ البرلمان والدعوة الى استفتاء ورئاسة مجلس الوزراء حين يحضره بالإضافة إلى صلاحيات متفرقة في الظروف الاستثنائية، وآخرها – وليس أقلها أهمية -، اقتراح مشاريع قوانين للبرلمان. ومع ذلك، لم يستخدم أول رئيس منتخب في الجمهورية الثانية صلاحية المبادرة التشريعية إلا مرة واحدة خلال السنوات الثلاث الماضية، عندما اقترح القانون الأساسي المتعلق بالمصالحة في المجال الإداري، والذي استغرقت المصادقة عليه عامين كاملين بعد أن تسبب في احتجاجات شديدة و تعرّض لانتقادات و طعون أدت إلى تقليص مشمولاته. وتبقى جملة صلاحيات ساكن قرطاج مهمة رغم القطع مع الصبغة الرئاسوية للنظام السابق.

متابعة انعقاد مجلس الامن القومي

من المفروض أن يجتمع المجلس كل ثلاث أشهر على الأقل، حسب الأمر المنظم له، أي كان من المفروض أن يلتئم أعضائه في تاريخ أقصاه 10 فيفري 2018، نظرا لأن آخر اجتماع كان قد انعقد في 10 نوفمبر 2017. في هذا الجدول متابعة لتواريخ الاجتماعات حسب صفحة الفايسبوك الرسمية لرئاسة الجمهورية و التي تفتقد موقع واب رسمي.

هل أن الهدف هو نقل مركز القرار من القصبة إلى قرطاج؟

إنها ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها الباجي قائد السبسي الأدوات المؤسساتية لتعزيز تموقعه السياسي، فكان قد بدأ مسيرته السياسية مع أول حكومة في عهد الاستقلال في 1956 بصفته مدير الشؤون المحلية والبلديات لدى الوزير المكلف بالداخلية. ليعود إلى المشهد السياسي في مارس 2011.

لنعد إلى تلك الفترة التي كانت فيها حركة التاريخ محتدمة، لتشهد إحدى أكبر المظاهرات في البلاد، شارك فيها أكثر من مئة ألف شخص حسب بعض وسائل الإعلام، لرفع شعار  “ارحل” (ديغاج) ضد حكومة محمد الغنوشي.

كان الغنوشي يعقد اجتماعات مجلس الوزراء في القصر الرئاسي بقرطاج عوض القصبة، نظراً للاعتصام الكبير في ساحة الحكومة آنذاك، والتي تعذّر الوصول إليها حينها لكونها مركز الاحتجاجات على حكومته. قامت الاحتجاجات ضد هذه الحكومة لاعتبارها استمراراً لنظام الدكتاتور المخلوع بن علي، والذي قد فرّ قبلها بستة أسابيع إلى المملكة العربية السعودية. في ذلك الوقت، كلف الرئيس المؤقت فؤاد المبزع الباجي قائد السبسي بتشكيل حكومة ذات هدف بسيط وواضح: قيادة تونس إلى انتخاب مجلسها التأسيسي الثاني. ووضع السبسي شرطاً، وهو إعادة مركز الحكم إلى القصبة، مقر الحكومة.

تغيّرت صلاحيات هذا الأخير في السنوات الماضية، فقد كان رئيس حكومة يمارس عمله دون برلمان وعبر مراسيم عدة، ليتم انتخابه في 2014 كرئيس الجمهورية. وبالرغم من كونه رئيساً، فإن سلطة الباجي قائد السبسي قد تقلّصت بشكل واضح مقارنة بتلك التي كان يتمتع بها في سنة 2011 . فقد بات عليه أن يتعامل مع سلطات أخرى، وهي السلطة التشريعية والسلطة القضائية، علاوة على المؤسسات الدستورية والمستقلة التي لم يتردد في مهاجمتها، فسلطاته كرئيس حاليا هي أقل بكثير من سلطاته حين كان رئيس حكومة في القصبة، وأقل بكثير من صلاحيات رئيس في الجمهورية الأولى (1959-2011).

هل يشكل هذا مصدر إحباط؟ دون شك، إن أخذنا بعين الاعتبار عدد المناسبات التي أثار فيها الباجي قائد السبسي إمكانية تعديل الدستور لمنح مؤسسة رئاسة الجمهورية المزيد من الصلاحيات (خصوصا في مقابلة له مع صحيفة لابريس). و الملاحظ أن هذا المقترح لم يثر ردود فعل إيجابية، ما عدا ما تمّ تداوله في الصحف التي تحسب على النظام الحاكم.

أمثلة عن مقالات تؤيد تغيير النظام السياسي

ا

الغموض القانوني أداة سياسية

وفي هذا السياق جاء تشكيل لجان مجلس الأمن القومي بهدف مراقبة كل ما يجري حتى إن تطلب الأمر التعدي على صلاحيات رئيس الحكومة.

وبموجب دستور 2014 تنقسم السلطة التنفيذية في تونس إلى قسمين: رئيس الجمهورية المنتخب بالاقتراع العام المباشر من ناحية، والحكومة التي تنال ثقة البرلمان من ناحية ثانية. وحدود السلطات بين الرأسيْن، بل الرئيسيْن، قابلة للاختراق خصوصا في فترة تركيز المؤسسات المضمنة في الدستور.

دستور الجمهورية التونسية 2014

الفصل 77

يتولّى رئيس الجمهورية تمثيل الدولة، ويختص بضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة.

كما يتولّى:

– حلّ مجلس نواب الشعب في الحالات التي ينصّ عليها الدستور، ولا يجوز حلّ المجلس خلال الأشهر الستة التي تلي نيل أول حكومة ثقة المجلس بعد الانتخابات التشريعية أو خلال الأشهر الستة الأخيرة من المدة الرئاسية أو المدة النيابية،

– رئاسة مجلس الأمن القومي ويُدعى إليه رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب،

إن الخلاف حول تقسيم السلطات بين المؤسستين لا يمكن حسمه على المستوى القانوني، إذ وحدها المحكمة الدستورية، والتي لم تحدث حتى الآن، تملك صلاحية الحسم في ذلك.

الفصل 91

يضبط رئيس الحكومة السياسة العامة للدولة، مع مراعاة مقتضيات الفصل 77، ويسهر على تنفيذها.

إن الخلاف حول تقسيم السلطات بين المؤسستين لا يمكن حسمه على المستوى القانوني، إذ وحدها المحكمة الدستورية، والتي لم تُحدث حتى الآن، تملك صلاحية الحسم في ذلكبيد أن المعركة تدور على المستوى السياسي حيث تستخدم رئاسة الجمهورية الغموض القانوني الذي يحيط بمفهوم “الأمن القومي”، و ما ينجرّ عنه في مجالات عمل مجلس الامن القومي كما يظره تساؤل طرحه أسامة عباس الخبير القانوني في مقال نشر في ماي 2017.

عندما يعتبر نائب أن الأمن الغذائي قضية من قضايا الأمن القومي (….) أو عندما يعلن مدير المرصد الوطني للشباب أن الشباب قضية “أمن وطني” (..) هل هذا كاف لاعتبار هاتين القضيتين وكثير غيرها فعلا كذلك؟ لماذا لا يشمل ذلك الفساد والسوق الموازي والبطالة والهجرة والتفاوت الجهوي أو مناطق الظل طبيا؟ إن الحدود غير واضحة بين صلاحيات رأسي السلطة التنفيذية.
وإزاء عدم توفر من يفسر “رسميا” الدستور أي المحكمة الدستورية، يمكن الاستئناس بما أشار إليه التقرير العام حول مشورع الدستور في 2013 في الفصل المخصص للسلطة التنفيذية الى أنه:

“من أجل النجاعة تم التخلي مثلا عن أي حالة تتطلب التوافق بين رأسي السلطة التنفيذية، فكل صلاحية، حتى وإن كانت الجهات فيها متعددة، ترجع من حيث الحسم النهائي فيها إلى جهة واحدة. و هو ما يمكّن أيضا من الحد من دواعي تنازع الاختصاص بين رأسيْ السلطة التنفيذية.

 

ولكن هذه الأماني لم تأخذ بعين الاعتبار أن تغيير عقلية السلطة الأبوية المطلقة يستغرق أكثر وقت مقارنة بتغيير النظام السياسي دستورياً.

عنوان : مجلس الأمن الوطني قديم متجدد؟

هذا المجلس ليس الأول من نوعه، بل نحتاج للعودة إلى 1990 لنعثر على آخر مؤسسة من هذا القبيل في الرائد الرسمي “مجلس الأمن الوطني” تحت سلطة رئاسة الجمهورية. وهو يحل محل مجلس 1988. ففي هذا العام غير بن علي التسمية من مجلس “قومي” إلى مجلس “وطني”. ويعود إحداث أوّل مجلس في حكم المخلوع، “المجلس القومي للأمن”، إلى 27 نوفمبر 1987، أي بعد 20 يوما من انقلاب 7 نوفمبر 1987. وحلّ المجلس محل “مجلس الدفاع الوطني” الذي أرسي سنة 1970 و قد وقع مرسومه الوزير الأول الباهي الأدغم وكان المجلس تحت سلطة الوزارة الأولى وليس رئاسة الجمهورية. وهذا الأمر موقع من رئيس الوزراء في الحكومة التي كان يشغل منصب وزير الدفاع فيها حينها الباجي قائد السبسي.

ويجدر الانتباه إلى أهمية الظرف التاريخي، فقد كان بورقيبة في الخارج لتلقي العلاج وأوكل سلطاته للباهي الأدغم في وقت كانت البلاد تمر بأزمة سياسة واقتصادية كبيرة مع فشل نظام التعاضد وإحالة رئيس الوزراء الأسبق أحمد بن صالح أمام المحكمة العليا، ووسط منافسة بين الثلاثي نويرة والمصمودي من جهة والأدغم من جهة أخرى.
وكانت تلك المرحلة حاسمة بالنسبة لهذه المؤسسة لأنها المرة الأولى منذ الاستقلال التي يُنقل فيها المجلس من الوزارة المكلفة بالدِّفاع إلى الوزارة الأولى. وكشف الباجي قائد السبسي في كتابه عن بورقيبة خلفيّات هذا الخيار المثير للجدل. وكتب في كتابه الصادر في 2009 دار الجنوب للنشر، الحبيب بورقيبة المهم و الأهم:
“أثناء اجتماع لمجلس الجمهورية الذي دعي لبحث إقامة مجلس للدفاع الوطني، احتج المصمودي على فكرة وضع هذا المجلس تحت سلطة رئيس الوزراء. وقال أنه يجب أن يرأس رئيس الجمهورية هذا المجلس.”

ومنذ سبعينات القرن الماضي حتى اليوم لم يتغيرالنقاش كما يبدو، لكن مع فارق مهم. اليوم لم يعد الحكم نظاماً رئاسياً بل نظام شبه برلماني لا تزال ملامحه غامضة وفي طور البلورة.

وباسم “مصلحة الدولة” وحالة الطوارئ والحاجة للأمن، أيّ نظام يريد مُمَثِّلونا إقامته: رئيس الجمهورية والحكومة وممثلو الشعب الوطنيون والمحليون. وأيُّ دور سَيَتَنَازَلُون عنه لنا نحن مَن يُفترض أنهم يُمَثِّلُونَنَا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *